يشير تقرير “الراصد العربي حول العمل غير المهيكل” الذي اطلق قبل يومين في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية، في الجامعة الأميركية في بيروت “إن العلاقة السببية بين العدالة الإجتماعية والديمقراطية وبناء الدولة تشكل هاجساً لدى الأطراف المعنية بتحقيق التنمية. ولكن المقاربات المقترحة لمعالجة الإختلالات الإقتصادية والإجتماعية تتفاوت بين من يعتبر أن الإصلاحات الهيكلية التي طبقت خلال العقود الماضية، انسجاما مع رؤية «تفاهم واشنطن» وبرامج المؤسسات المالية الدولية، صحيحة، ويجب استكمال تطبيقها في الإتجاه ذاته مع ادخال بعض التعديلات التجميلية لتحسينها بالإستناد الى تجارب الماضي. وهذا الإتجاه يعتبر أن غياب الديمقراطية والمساءلة والمحاسبة هو وراء الأزمة التي أدت الى التحركات الشعبية في العالم العربي مطلع العقد الجاري. وبين اتجاه آخر يعتبر أن سياسات التكيف الهيكلي ساهمت في تفكيك المؤسسات العامة وإطلاق حرية اقتصاد السوق وآلياته، وتنامي طبقة مستفيدة من العلاقات الإقتصادية والمالية والتجارية الدولية والتي كانت وراء نشوء «اقتصاد المحاسيب»، فعممت الفساد والتهرب الضريبي وساهمت في تفاقم الأوضاع. ويرى اصحاب هذا التوجه أن هذا الخلل هو ذو طبيعة بنيوية وهو وراء الظواهر الإجتماعية المرضية، وهو بالتالي وراء تعميق الفوراق بين مختلف الفئات في المجتمع.
يلفت التقرير الى ان أصحاب الوجهتين لا يتعارضان في الموقف من ضرورة اعتماد نموذج تنموي مختلف، ولكنهم يختلفون حول عناصر هذا النموذج، فيتجه اصحاب التوجه الأول نحو اقتراح مزيد من الليبرالية والتحرير، نظرا لإعتقادهم بأن الدولة فاشلة وأن آليات اقتصاد السوق، مع بعض الضوابط، كفيلة بتحقيق معدلات نمو تعالج الإختلالات الإجتماعية كالبطالة والفقر، في حين يؤكد اصحاب التوجه الثاني على أن للدولة دور أساسي تلعبه في العملية التنموية، سيما أنهم يفصلون بين التنمية بكافة مكوناتها، وكحق من حقوق الإنسان يقوم على الحرية والحق في تقرير المصير، وبين النمو كأحد العوامل المساعدة للتنمية ولكن ليس العامل الوحيد. بديهي القول أن الخيار الثاني هو الاقرب الى الصواب، وهو الكفيل بوضع الأسس نحو العدالة الإجتماعية.
ساهم في اعداد هذا التقرير مجموعة واسعة من الباحثين من مختلف الدول العربية ونشره شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية بالتعاون مع «الراصد الاجتماعي» ومنتدى الاقتصاديين العرب وشبكة العمالة النسائية غير المهيكلة، بدعم من عدد من الجهات المانحة الدولية.
يعتبر العمل غير المهيكل احد أهم أسباب الإختلالات التي تواجهها دول المنطقة العربية بل العالم ككل. إذ، وبحسب منظمة العمل الدولية، بات العمل غير المهيكل يشكل بين نصف وثلاثة أرباع العمالة غير الزراعية في البلدان النامية. ولعل أهم أسباب توسع العمل غير المهيكل في البلدان العربّية خارج العمل الزراعي هي سياسات الإنفتاح والعولمة النيولبرالية، والطفرة الشبابية، وهجرة الأرياف الى المدينة نتيجة إهمال الأرياف لا سيما قطاع الزراعة،وكذلك موجات هجرة وافدة كبيرة.
عملت شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية خلال السنتين الماضيتين على انجاز التقرير حول العمل غير المهيكل في إطار «راصد الحقوق الإقتصادية والإجتماعّية في البلدان العربية». ويقارب التقرير العمل غير المهيكل من وجهة نظر حقوق الإنسان والعدالة الإجتماعية. ويتناول التقرير ثلاثة أبعاد مختلفة: أولاً رصد أوضاع هذه الحقوق المغيبة إجمالاً، وثانيًا، آفاق النضالات من اجل نيلها، وثالثًا، دور الدولة كفاعل أساسي في تأمينها.
ويشير التقرير الإقليمي الذي اعده الباحث الدكتور سمير العيطة رئيس منتدى الإقتصاديين العرب بالإستناد إلى التقارير الوطنية إلى: «إن جوهر قضية العمل غير المهيكل هو قضية الحقوق المدنية والإقتصادية. حقوق في التأمين الصحي والطبابة والدواء. حقوق في معاش الشيخوخة عندما يصل المشتغل إلى عمر لا يسمح له بالعمل. وحقوق بمدخول يؤمن حياة كريمة، إن كان أجراً نقديا أو ربحا على تجارة بسيطة. وحقوق في المسكن ومياه الشرب النظيفة والصرف الصحي والخدمات الإجتماعية والبنى التحتية.وكذلك حقوق في التعليم والتأهيل بما يناسب التطورات الإقتصادية والتقنية. كل هذه الحقوق مضمونة في الشرعة الدولية للحقوق الإقتصادية والإجتماعية الملزمة والمكملة للشرعة الدولية لحقوق الإنسان. تضمنتها دساتير غالبية البلدان العربية. ولكن لم يعد يحوز عليها سوى جزء يتضاءل من العاملين.
ويصل التقرير الى استنتاجات، يعتبر العيطة، أنها تنقض الصورة النمطية عن العمل غير المهيكل، إذ أن «أعلى معدلات انعدام الهيكلة هي في الدول الأقل صرامة في قوانينها وبيروقراطيتها، والعكس بالعكس، ما ينقض إحدى الصور النمطية عن العمل غير المهيكل، انه يتأتى من صرامة القوانين والبيروقراطية». كما يخلص التقرير إلى أن العمل غير المهيكل ليس خيارا، بدليل أن «العمل بأجر يطغى على العمل غير المهيكل في البلدان العربية، إلا في حالات نادرة، ما ينقض أيضاً فكرة أن العمل غير المهيكل هو أساسا خيار. إذ لا خيار أمام الكثيرين من الوافدين الشباب سوى الإنخراط في أي نوع من العمل يؤمن المعيشة، حتى لو كان مؤقتا». ويطرح التقرير تساؤلا يتحدى السياسات الحكومية التي يجب أن تستفيد من الطاقات الشبابية الوافدة إلى سوق العمل قبل أن تشيخ من أجل تعزيز «إقامة نظام اعادة توزيع اجتماعي متوازن عبر التأمينات يشمل بإيراداته العمل غير المهيكل الذي يصيب الشباب بشكل خاص ويحمي بنفقاته خصوصا الفئات الأكبر سّنا التي تعرف نسبا أعلى من المرض أو التوقف عن العمل».
اعد التقرير المتعلق بالعمل غير المهيكل في لبنان، ربيع فخري جميل، وهو باحث مستقل في قضايا التنمية الإقتصادية والإجتماعية. ويشير التقرير الى ان العمالة غير المهيكلة نمت في لبنان بمعدل سنوي وصل الى حدود 0.86% للفترة ما بين العامين 2000 و2007. بالمقارنة مع دول المنطقة يتبين أن اللانظامية في العمل كانت تنمو بوتيرة اسرع من مصر (0.76%) وسوريا (0.58%) والمعروفتين بالدور البارز للقطاع العام في إجمالي عرض العمل من جهة، ومن جهة اخرى بحجم الاقتصاد الزراعي الكبير والذي يقوم بالغالب على عمالة لانظامية واللتين كانتا تحظيان، نسبيا، باستقرار سياسي واقتصادي. يسجل أن اكثر من نصف العاملين في لبنان (56%) هم لا نظاميون، مع تفاوت واضح بين العاملين الريفيين، حيث يرتفع معدل اللانظامية بينهم الى اكثر من الثلثين وينخفض في صفوف العاملين في المدن الى حوالى %48. في هذا السياق يشير تقرير البنك الدولي (2015) إلى أن الاجراء النظاميين يشكلون أكثر من 29% من إجمالي العاملين في لبنان، في حين يشكل العاملون لحسابهم اللانظاميون حوالى 32% والأجراء اللانظاميون %19. كما يشير التقرير إلى أن ثلث الأجراء وثلثي العاملين لحسابهم منخرطون في أنشطة خدماتية متدنية الإنتاجية والمردودية (مبيعات التجزئة، صيانة المركبات، النقل والتخزين). في المقابل تستوعب قطاعات الإتصالات والوساطة المالية والتأمين 14% من الأجراء و3% من العاملين لحسابهم. علما أن الفئة الأخيرة تتكون بمعظمها من افراد يقدمون خدمات في البيع والتسويق لشركات التأمين والاتصالات، وهم بمعظمهم لا يحظون بأي حماية أو تقديمات اجتماعية، خصوصا انه يجري تسجيلهم في وزارة الإقتصاد والتجارة اللبنانية بصفة ارباب عمل فرديين، وهذا ما يعفي الشركات من مسؤولياتها تجاه فئة من موظفيها تعيد تصنيفهم كموردي خدمات.
ويخلص التقرير الى الاستنتاج أن علاقات العمل في لبنان تسيطر عليها اللانظامية على اختلاف العلاقة التعاقدية وحتى القطاع الإقتصادي، وهذا ما يدعم الرأي العام حول اللانظامية أنها اصبحت خارج إطار قطاعات وظائف وحتى مناطق بعينها.
يشكل العمل اللانظامي في لبنان مكونا أساسيا للتشغيل واستيعاب الدفق المتزايد لليد العاملة، في ظل محدودية انتاجية الإقتصاد اللبناني وغياب أي استراتيجية حكومية، لتحسين الإنتاجية والتوجه نحو نمو مدفوع بنتاج فرص العمل.
ويخرج التقرير بجملة من التوصيات يراها الباحث أساسية لخلق قوة دفع معاكسة للإقتصاد السياسي للانظامية. ابرزها محاولة التأثير على صانعي القرار في ما يتعلق بمسوحات العمل والذين يمكن حصرهم بشكل أساسي بدائرة الإحصاء المركزي ومنظمة العمل لدولية والبنك الدولي. لذا على هيئات المجتمع المدني العمل على بناء تصورها لكيفية دراسة وتشخيص العمل غير المهيكل عبر مسوحات مستقلة. كما يوصي بالعمل على اعتماد أرضية للحماية الإجتماعية، حيث تضمن الدولة حدا ادنى من التقديمات الإجتماعية والصحية للجميع، بغض النظر عن طبيعة موقعهم الإجتماعي أو الإقتصادي، الأمر الذي يتطلب دعم وتطوير آليات عمل المؤسسات الضامنة.
اما الملاحظة الختامية الأبرز في التقرير فتتعلق ببنية النظم الضريبي في لبنان وتحديداً الضرائب غير المباشرة وأبرزها الضريبة على القيمة المضافة، التي تحفز الدفع نحو اللانظامية. ويوصي التقرير بأن يصار الى اعتماد ضرائب تحفز الطلب على العمل اللائق وإعادة التوزيع، واصلاح العمل النقابي للتأثير في علاقات العمل، حيث إن التنظيم العمالي لا يزال الخيار الوحيد لبناء القوة التفاوضية والمعنوية للعمال والتأثير على ظروف العمل حتى اللانظامية منها.