العواقب غير المنتظرة للتدابير الأحادية الجانب المفروضة على الاقتصاد السوري وشركاته الصغيرة والمتوسطة
سمير العيطة
تشرين الثاني/نوفمبر 2020
مركز كارتر
One Copenhill
453 Freedom Parkway
أتلانتا، جورجيا ٣٠٣٠٧ Tcccrp@cartercenter.org www.cartercenter.org
© 2020 مركز كارتر. جميع الحقوق محفوظة.
شكر وتقدير
لم تكن هذه الورقة والأبحاث التي بُنيَت على أساسها ممكنة دون الدعم الاستثنائي المقدم من الزملاء في منتدى الاقتصاديين العرب، بالإضافة إلى المعلومات التي وفّرتها المؤسسة الاستشارية المستقلّة – المنظور التحليلي الجيوسياسي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MGAL)، خاصّة عبر إجراء بعض المقابلات الميدانية. ويعرب الكاتب عن امتنانه لربيع نصر والمركز السوري لبحوث السياسات (SCPR)، وللمنظّمة غير الحكومية (REACH) ممّا أتاحته من بيانات متعلقة بالتضخم. ويعرب الكاتب عن امتنانه أيضًا للأشخاص الذين أُجريت معهم المقابلات والأشخاص الذين راجعوا مختلف الفصول أثناء عملية الإعداد.
يتمّ تقديم نتائج بعض المقابلات كما هي، من دون أي تغيير، في مربعات منفصلة، وهي لا تُمثل بالضرورة آراء الكاتب أو آراء مركز كارتر.
شعار منتدى الاقتصاديين العرب
الكاتب
سمير العيطة هو رئيس منتدى الاقتصاديين العرب؛ ورئيس التحرير والمدير العام السابق لصحيفة « لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية »؛ وأستاذ محاضر في الاقتصاد السياسي في جامعة باريس دوفين، وجامعة باريس الثانية السوربون، وجامعة القديس يوسف في بيروت؛ وخبير استشاري في مجالات الاقتصاد والمالية والعمل والتخطيط العمرانيّ. سمير العيطة من مواليد دمشق (سوريا) في العام 1954؛ أنجز دراساته في معهد متعدّد التكنولوجيات-بوليتكنيك باريس والكلية الوطنية للجسور والطرق، وحاز على شهادة الدراسات العليا من معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، والمعهد الوطني للعلوم والتقنيات النووية، وجامعة الدراسات العليا لإدارة الأعمال – الإدارة التنفيذية (CPA-HEC). يقوم حاليًا باستشارات لدى وكالات الأمم المتحدة (برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا – الإسكوا) وغيرها من المنظمات الدولية، لا سيما فيما يتعلق بالشرق الأوسط، بما في ذلك العراق وسوريا وليبيا.
عن التقرير
سلّط انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس 2020 وآثاره الإنسانية المدمّرة الضوء على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردّية في لبنان وعلى نتائجه المترتّبة في سوريا.
قبل الانفجار، كان لبنان يتخبّط في أزمة مالية استنزفت مدّخرات اللبنانيين والسوريين الذي ائتمنوا النظام المصرفي اللبناني على أموالهم. وكان مرفأ بيروت، بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا من قِبَل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، قد تحوّل إلى رئة حيوية لدمشق. لقد كان نقطة دخول رئيسية للمساعدات الانسانية المقدّمة من وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية، وكذلك للمساعدات الضرورية للحفاظ على الحدّ الأدنى من آلية عمل الاقتصاد السوري. كما لعب مرفأ بيروت دورًا حيويًا في تأمين المواد الضرورية لمعيشة السوريين الذين يسكنون في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية.
فُرضت عقوبات خارج الأمم المتحدة على سوريا منذ السبعينيات وتمّت زيادة هذه العقوبات في العام 2003 إثر اجتياح العراق من خلال « قانون محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان » المعروف بقانون SALSA. ثمّ جرى تشديد هذه العقوبات مع انتفاضة العام 2011. معظم تلك العقوبات استهدفت أفرادًا على خلفيّة الاتهام بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان ولم يكن القصد منها كبح إمدادات الدواء والغذاء.
يُظهِر التقرير بعنوان « العواقب غير المقصودة للتدابير الأحادية الجانب المفروضة على الاقتصاد السوري وشركاته الصغيرة والمتوسطة »، الذي يقدّمه الاقتصادي السوري سمير العيطة بطلب من مركز كارتر، كيف أنتجت هذه التدابير الأحادية الجانب آثارًا سلبيّة حادّة على الاقتصاد والشعب السوريين، بالإضافة إلى آثار النزاع المستعر الدائر. يُضيف التقرير عناصر تقنية إلى الجدل الدائر حول العقوبات بين من يُشيد بها كأداة لإضعاف نظام الأسد ومن ينتقدُها بوصفها أداة من أدوات « الحرب على سوريا ».
استناداً إلى المقابلات والإحصائيات، تنظر الدراسة في الطرق التي تؤدّي التدابير الأحادية الجانب من خلالها إلى تأزيم المشاكل الاقتصادية في سوريا وزيادة معاناة المواطنين العاديين بالإضافة لآثارها على أعضاء في النظام. وتحلّل التأثير المباشر للتدابير الأحادية الجانب على التجارة الخارجية، لا سيما مع الولايات المتحدة وتركيا، وعلى الاستيراد والتصدير، مع تسليط الضوء على الأثر غير المباشر لهذه التدابير على الاقتصاد السياسي لسوريا خلال الصراع، وعلى سياسات « تجنّب المخاطر » والامتثال المفرِط التي ينتهجها الشركاء الأجانب لتفادي التعرّض للعقوبات بدورهم كنتيجة للضغوطات الخفيّة، حتّى قبل قانون قيصر. وتتعدّى هذه المفاعيل غير المباشرة نصّ العقوبات بحدّ ذاته. فالتقرير يستنتِج كيف أن القطاعات الاقتصادية الحيوية عانت في ظلّ العقوبات الأحادية الجانب وكيف تعطّلت آليّات عملها بشكلٍ كبير. وتشمل هذه القطاعات الزراعة والتجارة الداخلية والأمن الغذائي، والشركات المتناهية الصغر (الميكرو) والصغيرة والمتوسطة، والقطاع المصرفي والمالي. كما يفصّل التقرير تأثير العقوبات على طريقة التعامل مع وباء كوفيد-19. ويُختَتم التقرير ببعض التوصيات ذات الطابع السياسيّ.
على الرغم من تجذّر الفساد وسوء الإدارة والزبائنية في سوريا، تمتّعت البلاد طويلاً بالأمن الغذائي والدوائي قبل العام 2011 ولم تكن تلجأ إلى الاستيراد في هذين القطاعين إلاّ فيما يتعلّق بالمنتجات التخصّصيّة. أما في ظل التدابير الأحادية الجانب فقد بات الشعب السوري يعتمِد بشكلٍ كبير على التجارة مع تركيا ولبنان وعلى المساعدات الخارجيةوهطول الأمطار، مما قد يعرّضه لخطرِ كبير إذا طالت فترات الجفاف. أما في قطاع الطاقة، فقد كان إنتاج النفط السوري يُعاني من تراجعٍ كبير أصلًا قبل النزاع حيث انخفض ميزان تجارة النفط والمشتقات النفطية من فائض بقيمة 1.2 مليار دولار في العام 2011 إلى عجز بقيمة 4.4 مليار دولار في العام 2012. وقد أثّرت ندرة الوقود وارتفاع أسعاره على الشركات الصغيرة والمتوسطة وعلى السكّان بشكلٍ عام، وانعكس هذا الأمر في اللجوء إلى التقنين الكهربائي وخفض إنتاج المياه المنزلية ومياه الري. وأدّى الحظر الأميركي على استيراد سوريا للنفط ومشتقّاته إلى اعتمادها بالكامل على الإمدادات النفطية من إيران وروسيا. وبسبب الحاجة الملحة، قامت جميع الأطراف، بما فيها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ومجموعات المعارضة المسلّحة، بتهريب النفط من المناطق الخاضعة لسيطرة داعش.
كما أدّت العقوبات الأحادية إلى كبح نموّ أبرز المصارف الخاصة في القطاع المصرفي السوري. وحتى عندما لم تكن المصارف الخاصة واردة على لائحة العقوبات فإنّ معظم هذه المصارف المرتبطة بمصارف لبنانية وأردنية خسرت علاقاتها مع المصارف الغربية المراسلة (الوسيطة) بسبب الإفراط في الامتثال وتجنّب المخاطر. وفي هذه الأثناء، احتلّت مصارف الخليج التقليدية والإسلامية صدارة القطاع المصرفي السوري رغم حداثة وصولها إلى السوق ورغم العقوبات المفروضة على بعض المساهمين فيها.
بالتوازي، دفعت التدابير الأحادية المفروضة على مصرف سوريا المركزي والمصرف التجاري السوري المنظمات غير الحكومية الدولية إلى تحويل الأموال من الخارج عبر نظام « الحوالة » غير الرسميّ، وبنفس الوقت أدّت هذه العقوبات إلى ازدياد تمويل المجموعات المقاتلة من خلال نفس النظام لتحويل الأموال.
ولعبت هذه التدابير الأحادية دورًا غير مباشر في المراحل الأولى للنزاع عبر تسهيل نشوء المجموعات المتطرّفة. كما أدّت العقوبات إلى نموّ شبكات التجارة غير المشروعة التي تسيطر عليها الأجهزة الأمنية المسؤولة عن القمع. وقد أدّى تدهور الأوضاع المعيشية للسكان في المراحل الأولى من النزاع إلى الاعتماد المتزايد على التمويل الخارجي من خلال تحويلات السوريين من الخارج، وعلى تمويل المجموعات المسلّحة أو النهب أو على المساعدات الدولية.
خلال المراحل اللاحقة من النزاع، لعبت العقوبات دورًا كبيرًا في تمويل الحرب بشكلٍ غير مباشر عبر تأمين موارد مالية للمجموعات المسلّحة من كلّ الأطراف من خلال اقتصاد الحرب غير الرسمي. أحد الأمثلة على ذلك هو سيطرة المجموعات المتطرّفة على الصادرات التركية إلى كافّة أنحاء سوريا حيث تتعدّى قيمتها تتعدّى 1.5 مليار دولار سنويّاً.
في العام 2019 أدّت الأزمة المالية في لبنان إلى تفاقم هذه الآثار حيث جرى حجز ما قيمته حوالي 30 مليار دولار من المدّخرات العائدة إلى السوريين ومن رساميل الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم. وهذا أدّى إلى انهيار قيمة الليرة السورية. أضِف إلى ذلك أزمة جائحة كوفيد-19 وتدابير الإغلاق العام التي فاقمت الأزمة القائمة. وأدّى تراجع دخل السكّان (السوريين) وتراجع قدرات الإنتاج المحلّي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية.
وفقًا للتقرير، لا يُضيف قانون قيصر أي وسيلة جوهريّة إلى الأوامر التنفيذية الأمريكية القائمة أصلاً والتي تتواكب مع الإفراط في الامتثال من قبل الأطراف الأخرى، ويعتبر أنّ قانون قيصر هو مجرّد أداة للسياسة العامّة.
ويختتم التقرير بتقديم توصيات لإضافة آليات قادِرة على التعامل مع الآثار المباشرة وغير المباشرة الناجمة عن ممارسات تجنّب المخاطر والإفراط في الامتثال. ولعلّه من الأفضّل أن يتمّ وضع الآليات المقترحة تحت رعاية الأمم المتحدة في مجالات تستهدف الانتاج الزراعي والأمن الغذائي ونشاطات الشركات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة الحجم، وانخراط القطاع المصرفي في التمويل بدلاً من نظام الحوالة وغيره من الأنظمة غير الرسمية. يُعتبَر تنفيذ مثل هذه الآليات ذو أهميّة كبرى اليوم لاسيما على ضوء الأزمة اللبنانية وجائحة كوفيد-19، وقبل أن تتعرّض سوريا إلى جفاف قد تكون له آثار دائمة ومدمّرة.
قراءة الملخّص التنفيذي
الملخص التنفيذي
يُحلّل هذا التقرير الآثار المترتبة على التدابير (العقوبات) الأمريكية والأوروبية الأحادية الجانب المفروضة على الاقتصاد السوري منذ العام 2011 – وبالأخصّ تأثيرها على الشركات الزراعية الصغيرة والمتوسطة الخاصة والقطاعات المصرفية الخاصة. ولا يتناول التقرير التدابير الأحادية الجانب المفروضة على الأفراد، بل يشمل تحديداً تلك المفروضة على مؤسسات الدولة وعلى شبكات القطاعات الاقتصادية السورية الخاصة. ويفترِض التقرير أن آثار هذه التدابير الأحادية الجانب على الاقتصاد وسبل العيش في سوريا لم تكن منظورة.
يسعى التقرير، من خلال تحليل التطور الحاصل في كلّ قطاع منذ أوائل القرن الواحد والعشرين، إلى التمييز بين مختلف العوامل المؤثرة من أجل إبراز حالات انتهاك مبدأ « عدم الإضرار بالسكّان ».
الآثار الاقتصادية المباشرة للتدابير الأحادية الجانب المفروضة في العام 2011
أدّت التدابير الأحادية الجانب المفروضة في العام 2011 إلى انخفاض حادّ في صادرات القطاع الخاص في سوريا، بما فيها الصادرات غير النفطية. وتراجعت الواردات أيضًا، لكن ليس بالسرعة نفسها. وفي حين لم يتمّ توضيح الانخفاض في إنتاج النفط (بما في ذلك أنواع الوقود الأخرى) قبل العام 2011، باتت سوريا منذ العام 2012 تستورد النفط ومشتقاته أكثر مما تصدّر، مع وصول قيمة العجز إلى 4.4 مليار دولار أمريكي. وقد أخذت هذه القيمة في الانخفاض تدريجيًا بسبب القيود المفروضة على الاستيراد وانخفاض الاستهلاك. مع ذلك، بقيت نسبة استيراد النفط ومشتقاته حوالي 40% من إجمالي الواردات، مما زاد من اعتماد سوريا على إيران. وخلف النقص في الوقود آثارًا سلبية كبيرة على إنتاج الكهرباء، والنقل، والتدفئة، والضخّ للري الزراعي.
على الرغم من التدابير الأمريكية الأحادية الجانب المفروضة في العام 2003، ارتفعت الصادرات الأمريكية إلى سوريا بشكل كبير، لا سيما صادرات الذرة وحبوب الصويا، لتصل قيمتها إلى 500 مليون دولار أمريكي بحلول العام 2010. ولكن بعد العام 2011، انخفضت قيمة هذه الصادرات الأمريكيّة إلى أقل من 20 مليون دولار، وتراجعت حتّى صادرات الحبوب والأدوية، التي كانت مسموحة بشكل رسمي، لتصل إلى نسب ضئيلة جداً. وتجدر الإشارة في السياق نفسه إلى أن السياسات الأمريكية المتّبعة قبل العام 2011 منعت سوريا من شراء الطائرات ومحطّات الكهرباء.
نقلت هذه التدابير الأحادية الجانب قسمًا كبيرًا من الواردات السورية إلى القطاع غير الرسميّ، إذ اعتمدت معظم المصارف والشركات الأجنبية ممارسات الإفراط في الامتثال وتجّنّب المخاطر، تلقائيًا أو بعد التعرض لضغوط خفيّة. وارتفعت نسبة الواردات السورية « غير محددة بلد المنشأ » من 1% في العام 2010 إلى 40% في العام 2018.
بالإضافة إلى النفط، تسببت التدابير الأحادية الجانب في اعتماد سوريا إلى حدّ بعيد على الواردات من تركيا، التي مثّلت ربع الواردات السورية الإجمالية خلال النزاع. والأهم من ذلك، نُفِّذت عمليات الاستيراد هذه عبر المعابر الحدودية التي تسيطر عليها مجموعات المعارضة المسلحة، بما فيها المنظمات المصنّفة كجهادية وإرهابية بحسب قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، من جهة، والميليشيات الموالية للحكومة السورية من جهة أخرى. وشكّلت تلك الواردات مصدرًا أساسيًا للدخل بالنسبة إلى الطرفين المعنيين، وتسبّبت في تأجيج النزاع وإطالة أمده.
الآثار غير المباشرة للتدابير الأحادية الجانب المفروضة في العام 2011
أدت التدابير الأحادية الجانب المفروضة في العام 2011 إلى تحويل قسم كبير من الاقتصاد إلى القطاعات غير الرسمية. فزاد ذلك من « تكاليف المعاملات » التي يتحملّها السكّان واستفادت منها قوّات القمع والمجموعات المسلحة من جميع الأطراف. نتيجة لذلك، لعبت هذه التدابير دورًا مهماً، وإن غير مباشر، في مراحل النزاع المبكِّرة لإضعاف الانتفاضة السورية وتحويلها إلى نزاع مسلّح دون ضوابط، مع انتشار المجموعات المتطرّفة. كما نجمت آثار سلبيّة شديدة من انعدام السيطرة على تمويل المجموعات المتطرِّفة.
خلال مراحل النزاع اللاحقة والأكثر حدّة، لعبت التدابير الأحادية الجانب دورًا اساسيًا في تأجيج الحرب بشكلٍ متواصل، وتوفير موارد مالية هائلة للمقاتلين من جميع الأطراف على نحو غير مباشر من خلال الاقتصادات غير الرسمية. ويعود ذلك بشكل خاصّ إلى اعتماد جزء كبير من السكّان، وكذلك اعتماد سعر صرف الليرة السورية، إلى حدٍّ بعيد على تدفّق المساعدات الأجنبية وتمويل المقاتلين.
على الرغم من تحقيق بعض التعافي بين العامَين 2017 و2019 – أي خلال مراحل النزاع الأخيرة قبل فرض قانون قيصر – أدّت التدابير الأحادية الجانب إلى اعتماد الاقتصاد السوري بشكل كبير على الاقتصاد اللبناني. وبالتالي، ازداد تأثير الأزمة الاقتصادية التي بدأت في لبنان في تشرين الأول/أكتوبر 2019 على الاقتصاد السوري. بالإضافة إلى ذلك، أدّى فرض قانون قيصر في هذا السياق إلى تعميق الأزمتَين في سوريا ولبنان. وقد ينجِم عن الأزمة اللبنانية، التي يُتوقع أن تكون طويلة الأمد، خطر الفاقة الشديدة (المجاعة) والفوضى في سوريا.
تُشكَّل تعقيدات إجراءات الامتثال للتدابير الأحادية الجانب سببًا إضافيًا في ارتفاع « تكاليف المعاملات » التي سيتحمّلها السكان في نهاية المطاف. فضلًا عن ذلك، أدت إجراءات تجنّب المخاطر والإفراط في الامتثال التي فرضتها المصارف والشركات الأجنبية إلى صعوبات كبيرة في توفير المنتجات غير المشمولة بالعقوبات. ولم يتمّ وضع أي نظام فعليّ للتعامل مع تبعات ممارسات تجنّب المخاطر والإفراط في الامتثال على السلع الإنسانية، حتى فيما يتعلق بوكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية.
الأثر على الزراعة والأمن الغذائي
أدى شحّ الوقود المُستخدم لضخ مياه الري للزراعة، فضلًا عن تكلفته العالية، إلى انخفاض كبير في الأراضي المزروعة المرويّة وإنتاج المحاصيل. وأثّر ذلك بشكلٍ كبير على الأمن الغذائي في البلد، إذ أصبحت الزراعة تعتمد إلى حدٍّ كبير على هطول الأمطار المتقلِّب.
إنّ تراجع محصول إنتاج القمح المروي بسبب التدابير الأحادية الجانب والتكاليف العالية للوقود والأسمدة وغيرها من المنتجات، جعل الإنتاج السوري يهبط إلى ما دون المستوى اللازم لتلبية الاحتياجات الخاصّة بتوفير الخبز والأمن الغذائي، ذلك أن الاحتياطي الاستراتيجي كان قد استُنفِذ أو تعرّض للنهب. وأدّى ذلك إلى اعتماد سوريا على واردات القمح، التي تُلبّى جزئيًا من خلال خطوط الائتمان الإيرانية أو الروسية.
من جهة أخرى، أدّت التدابير الأحادية الجانب إلى توقّف شبه كامل لواردات الأسمدة إلى سوريا. وأدّى ذلك، إلى جانب التحديات التي يواجهها الإنتاج المحلّي للأسمدة، إلى التخلي عن استخدام الأسمدة في الإنتاج الزراعي، لا سيّما في إنتاج القمح. وترتّب على ذلك انخفاض في المحاصيل إلى النصف تقريبًا في الأراضي المرويّة.
شهدت سوريا أيضًا تراجعًا كبيرًا في إنتاج لحم الغنم واستهلاكه. فانخفضت بالتالي إيرادات أصحاب قطعان الغنم في سوريا. وأدّى ذلك بدوره إلى خسارة مصدر مهمّ للصادرات السورية. كذلك، تعطّلت سلسلة القيمة الخاصّة بالقطن، مع ارتفاع تكاليف الريّ. ونتج عن ذلك تراجعٌ كبير في أحد المكونات الأساسية للقطاع الخاص المحلي وأحد مصادر التصدير.
فضلًا عمّا سبق، انخفضت قيمة الخضار والفاكهة أيضًا ولم تعد تُصدّر بنفس الكمية والانتظام. ومع تدنّي الاستهلاك المحلي وارتفاع الأسعار، أصبح المزارعون يعتمدون أكثر على شبكات التصدير غير الرسمية.
هذا وغيرّت التدابير الأحادية الجانب وتطبيقها الانتقائي في مختلف مناطق السيطرة في سوريا طريقة توزيع وإنتاج الكمّون في البلاد، ممّا جعل من الكمّون جزءًا من اقتصاد الحرب وورقة للتفاوض السياسي بين الجهات الفاعلة. وقد حصل الأمر نفسه بالنسبة القمح أيضًا، لكن على نطاقٍ أوسع. آثار التدابير الأحادية الجانب على الشركات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة (MSMEs)
تُشكّل التدابير الأحادية الجانب، أكثر من النزاع نفسه، سببًا أساسيًا في إرساء أنشطة تجارية غير مشروعة، وكذلك أنشطة متعلقة بتكرير النفط وتهريبه. وتُعتبر التدابير الأحادية الجانب مسؤولة أيضًا عن تضاؤل فرص العمل، والتراجع في نموّ الشركات المتناهية الصغر.
كذلك، أدّى النزاع والتدابير الأحادية الجانب معًا إلى تباطؤ كبير في إنشاء شركات صناعيّة جديدة متناهية الصغر وصغيرة ومتوسطة في سوريا. فتركّزت المشاريع الجديدة بشكلٍ رئيسي على الإنتاج الغذائي بعد الصعوبات التي واجهتها السلسلة الغذائية.
وقد واجهت أنشطة الشركات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، على غرار أنشطة معظم السكان، عقبات بسبب عدم توفّر الكهرباء في البلاد. وجاء ذلك نتيجة الضرر الناجم عن النزاع، بالإضافة إلى آثار التدابير الأحادية الجانب على تجارة النفط والغاز والكهرباء مع البلدان المجاورة، والقيود المفروضة على استيراد رؤوس الأموال وقطع الغيار لمحطات الكهرباء.
وبرزت مشاكل أيضًا في تأمين مياه الشرب بسبب النقص في الوقود المُستخدم للضخ، بالإضافة إلى النقص في المضخات، وقطع الغيار، والمعدات اللازمة لتصليح المحطات المتضررة في المصدر وعلى طول شبكات التوزيع. يمكن اعتبار ذلك أيضًا نتيجة « غير منظورة » للتدابير الأحادية الجانب.
من جهة أخرى، فقدت سوريا قدرتها على إنتاج الأدوية الجنيسة (الجينيريك) الأساسيّة وتضرّر قطاع التصدير المرتبط بها، في ظلّ انقطاع الأدوية المستوردة.
الآثار على المصارف الخاصة وسعر الصرف
أدّت التدابير الأحادية الجانب إلى انخفاض دور المصرف التجاري السوري، وتراجع نموّ المصارف الخاصة، وانتشار المصارف التقليدية والإسلامية التابعة للخليج العربي في السوق المصرفية السورية. وتمكّنت مصارف الخليج بشكل رئيسي من المحافظة على بعض العلاقات مع المصارف المعنيّة بعمليات التجارة الأجنبية وأن تتعامل مع المشتريات الأجنبية العامة والمنظمات غير الحكومية الدولية.
ونُقلت معظم المعاملات المالية الأجنبية خارج النظام المصرفي السوري إلى نظام « الحوالة » غير الرسمي وغيره من الوسائل غير الرسميّة المماثلة لتحويل الأموال. وانطبق ذلك على عمليات الأمم المتحدة والمنظّمات الدولية غير الحكومية أيضًا.
بالتالي، أدّت التدابير الأحادية الجانب إلى اعتماد الاقتصاد السوري على المعاملات الماليّة غير الرسمية، عبر البلدان المجاورة بشكلٍ رئيسيّ (لا سيما لبنان وتركيا). ولم يعد مصرف سوريا المركزي يملِك إلا وسائل قليلة ليتدخّل مباشرةً في سعر الصرف.
اعتُبر ذلك المحرك الرئيسي للأثر الشديد الذي تركته الأزمة المالية اللبنانية على الاقتصاد السوري. فجُمّدت (أو على الأرجح فُقدت) الأصول العائدة لأفراد الطبقة الوسطى ورجال الأعمال السوريين، بما فيها تلك العائدة إلى معظم الشركات الصغيرة والمتوسطة، بسبب الأزمة المالية اللبنانية. فلم يعُد يمكن للشركات السورية الصغيرة والمتوسطة أن تستخدم هذه الأصول حتّى لاستيراد المنتجات غير المشمولة بالعقوبات. وزاد تهديد قانون قيصر على سوريا ولبنان من آثار الأزمة اللبنانية، ما أدى إلى انخفاض الليرة السورية إلى مستويات غير مسبوقة وحدوث تضخّم مفرِط، فعرقل ذلك أداء الاقتصاد السوري وتسبّب بعواقب مأساوية.
كذلك، أدّت التدابير الأحادية الجانب، بالإضافة إلى عمليات تمويل النزاع، بشكل تدريجي إلى اعتماد الاقتصاد السوري للدولار (دولرة). وكانت النتيجة هي التضخّم وانخفاض قيمة العملة مقارنةً بالدولار الأمريكي. وبسبب هذا التضخم، عانى قسم كبير من السكان من الحرمان؛ ومع الأزمة اللبنانية الراهنة والضغوطات الناجمة عن قانون قيصر، يمكن أن يؤدّي التضخم المفرِط إلى عواقب أكثر مأساوية على السكان.
دور البلدان المجاورة
أدّت التدابير الأحادية الجانب إلى اعتماد سوريا بشكل كبير على البلدان المجاورة: أي تركيا ولبنان والعراق والأردن؛ وتأثّرها بالصعوبات الاقتصادية في هذه البلدان. وينطبِق ذلك بشكل خاص في حالة الأزمة اللبنانية، التي بدأت في تشرين الأول/أكتوبر 2019 وتبيّن أن انعكاساتها على الاقتصاد السوري وعلى سبل عيش السكان في سوريا كانت مأساوية.
التدابير الأحادية الجانب وأزمة كوفيد-19
حذّرت منظمة الصحة العالمية من أنّ سوريا معرّضة بشكل كبير لفيروس كوفيد-19 الذي انتشر بطريقة مضطردة في سياق الأزمة اللبنانية، وانهيار العملة، وازدياد التضخم، والتدابير الأحادية الجانب. وطرح النقص في الوسائل الأساسية للتصدّي للوباء (الفحص، والحماية، ومعدات المستشفيات، والأدوية، إلخ.) مشكلةً كبيرةً جدّا. لكن الأثر الاقتصادي وخطر المجاعة تفوّقا على المخاطر الصحيّة.
الأثر المتوقع لقانون قيصر
لا يضيف قانون قيصر، من الناحية التقنية، أيّة أدوات هامة على التدابير الأمريكية الأحادية الجانب القائمة أساسًا. لكن بُعده « الثانوي » يضغط على الدول العربية المجاورة والآسيوية فيما تبقّى من تعاملاتها التجارية مع سوريا، وعلى الاتحاد الأوروبي، في حال كان ينوي تخفيف التدابير الأحادية الجانب الخاصّة به.
لكنّ قانون قيصر آثار له وخيمة من حيث توقيته؛ فهو يعطّل أي فرصة يملكها الاقتصاد السوري للتعافي ويضيف بعدًا نفسيًا كبيرًا على العواقب المأساويّة الشديدة للأزمة المالية اللبنانية وأزمة كوفيد-19 في سوريا.
الاستنتاجات لتوصيات السياسات
كان من المنطقي أكثر أن يقتصر فرض التدابير الأحادية الجانب على الأفراد الذين ثبُتَت مسؤوليتهم عن حالات انتهاك حقوق الإنسان وعلى الأفراد الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية. بالإضافة إلى ذلك، كان من المستحسَن أن تترافق هذه التدابير مع آليات لمواجهة العواقب المباشرة وغير المباشرة لممارسات تجنّب المخاطر المطبّقة على نطاق واسع. ويجب ألا تكون هذه الآليات مشابهة لبرنامج « الغذاء مقابل النفط » الذي اعتمدته الأمم المتحدة في حالة العراق في التسعينيات، ليس لأن سوريا لا تملك كميات كبيرة من النفط للتصدير فحسب، بل، بشكل أساسي، لأن هذه الآليات تؤثّر سلبًا على مجمل السكان.
المطلوب هو أن تخضع الآلية لسيطرة الأمم المتحدة، كما يجب أن تُعطى الأولوية للإنتاج الزراعي والأمن الغذائي وأنشطة الشركات الصغيرة والمتوسطة، وأن تسمح بالمشاركة القوية للقطاع المصرفي في القطاع المالي، بدلًا من أن يُعتمد نظام « الحوالة » الحالي وغيره من الأنظمة غير الرسمية.
إنّ التنفيذ العاجل لهذه الإجراءات يشكّل منطلقاً أساسيًا اليوم، حيث من المتوقّع أن تطول الأزمة المالية اللبنانية ونظرًا إلى التبعات المأساوية لأزمة كوفيد-19.